خلال خطاب ألقاه مؤخرًا في النادي الاقتصادي بمدينة شيكاغو، صرّح رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، بأن البنك المركزي سيتبع نهجًا حذرًا في ما يتعلق بأسعار الفائدة، في ظلّ حالة عدم اليقين المُتزايدة نتيجة سياسات الرئيس ترامب الجمركية.
وأوضح باول أن الاحتياطي الفيدرالي ينتظر بيانات إضافية قبل اتخاذ أي قرار بشأن تغيير أسعار الفائدة، مُحذّرًا في الوقت نفسه من أن الرسوم الجمركية قد تؤدي إلى عودة التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي، مما قد يضعف قدرة الفيدرالي على تحقيق هدفه المزدوج المُتمثّل في إدارة التضخم ودعم النمو وتحقيق أقصى قدر من التوظيف.
وقد أدّت تعليقات باول حول الحفاظ على الاستقرار بين التضخم والنمو إلى تقلباتٍ في السوق، حيث تُسارع الشركات للتعامل مع هذه التغييرات في السياسة التجارية.
نهج الترقب والانتظار في السياسة النقدية
أشار باول إلى أن الاحتياطي الفيدرالي ليس في عجلة من أمره لتغيير موقفه الحالي، مفضلاً الانتظار حتى تتضح الصورة الاقتصادية أكثر. وقال: “في الوقت الحالي، نحن في وضع جيد يسمح لنا بالانتظار حتى نحصل على رؤية أوضح قبل النظر في أي تعديل لسياساتنا”.
ويأتي هذا النهج الحذر بعد أن علّق الرئيس ترامب بعض مقترحاته الصارمة بشأن الرسوم الجمركية، والتي تسببت في تقبات كبيرة بالأسواق المالية. ⁽¹⁾
وصف باول تقلبات السوق الأخيرة بأنها نتيجة منطقية للتحولات الجذرية التي أحدثتها إدارة ترامب في السياسة التجارية – وليست علامة على ضغوط تستدعي ردًا من الاحتياطي الفيدرالي.
على الرغم من موقف الفيدرالي الحذر، أشار باول إلى أن الرسوم الجمركية قد تضر بالاقتصاد.
وأضاف موضحًا أن التغيرات في سياسات ترامب التجارية لا تستند إلى نماذج تاريخية واضحة، مما يصعّب على الشركات والاقتصاديين تقييم آثارها.
ولا يزال الفيدرالي يعمل على جمع بيانات إضافية لتقييم تأثير هذه السياسات على النمو والتوظيف والتضخم. ⁽²⁾
التهديد الذي تفرضه الرسوم الجمركية على هدف الفيدرالي المزدوج
تشكل الرسوم الجمركية ضغط على مهمة الفيدرالي المزدوجة، والمتمثلة في تحقيق أقصى درجات التوظيف والسيطرة على التضخم عند مستوى 2%.
وحذّر باول من أن الرسوم قد تخلق سيناريو معقّدًا، حيث يمكن أن يتسارع التضخم بينما يتباطأ النمو الاقتصادي ويتدهور سوق العمل، مما يزيد من صعوبة تحقيق أهداف البنك. ⁽³⁾
وأوضح أن الرسوم على الواردات قد ترفع التكاليف وتؤدي إلى زيادة التضخم. وفي حين يرى الفيدرالي أن هذه الزيادات غالبًا ما تكون مؤقتة، فإن باول أشار إلى أن هيكل رسوم ترامب قد يؤدي إلى ضغوط تضخمية مستمرة.
ولفت إلى أن مؤشرات التضخم على المدى القصير – سواء المستندة على السوق أو استطلاعات الرأي – قد بدأت بالارتفاع، وأن مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي، وهو المؤشر المفضل للفيدرالي، من المتوقع أن يصل إلى 2.6% في مارس.
سيتعين على باول الانتظار لمعرفة مدى تأثير الرسوم الجمركية على الاقتصاد. ⁽⁴⁾
النمو الاقتصادي يواجه بعض الضغط
أكد باول على المخاطر الجديدة التي تواجه التوسع الاقتصادي، خاصة في الربع الأول من عام 2025.
من المتوقع أن تشهد هذه الفترة نموًا ضعيفًا أو منعدمًا في الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بالوتيرة المستقرة في 2024.
ووفقًا لأحدث تقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، يُتوقع أن يبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول -0.1% فقط، وذلك بسبب زيادة استثنائية في واردات وصادرات الذهب. ومن المتوقع أيضًا أن يتأثر الناتج المحلي الإجمالي بقوة الواردات، والتي تنجم عن تهافت الشركات على تخزين السلع تحسبًا لفرض رسوم جمركية محتملة. ⁽⁵⁾
في المقابل، شهد الإنفاق الاستهلاكي – وهو محرك رئيسي للنشاط الاقتصادي – نموًا متواضعًا، رغم مبيعات السيارات القوية. وبيّن باول أن التقرير الأخير لوزارة التجارة الذي أظهر زيادة بنسبة 1.4% في مبيعات التجزئة في مارس، كان مدفوعًا أساسًا بمشتريات السيارات قبل فرض الرسوم الجمركية، مما يخفي الضعف في سلوك المستهلكين بشكل عام. ⁽⁶⁾
تقلبات السوق وغياب “الضمان الفيدرالي”
رغم تقلبات السوق الناتجة عن سياسات ترامب التجارية، لم يُظهر الفيدرالي أي نية للتدخل الفوري.
رفض باول فكرة وجود ما يُعرف بـ “الضمان الفيدرالي”، وهو مصطلح يشير إلى أن البنك المركزي سيتدخل لدعم الأسواق في حال حدوث تراجع حاد.
وقال: “تواجه الأسواق حالة من عدم القين الاقتصادي، مما يؤدي إلى تقلبات. لكن مع ذلك، فإنها تعمل بشكل منظم، تقريباً كما هو متوقع”. ⁽⁷⁾
وخلال خطابه، شهدت الأسهم انخفاضًا إلى أدنى مستوياتها، كما انخفضت عائدات سندات الخزنة، مما يعكس توتر المستثمرين. ومع ذلك، شدد باول على عدم وجود مؤشرات على وجود ضغوط نظامية في الأسواق، حيث تتكيف أسواق السندات والأسهم مع بيئة السياسات الجديدة.
ووفقًا لأداة فِد ووتش التابعة لمجموعة سي إم إي، تشير توقعات السوق إلى أن الاحتياطي الفيدرالي سيستأنف خفض أسعار الفائدة مجددًا في يونيو 2025، مع احتمال تنفيذ ثلاث إلى أربع تخفيضات بمقدار ربع نقطة قبل نهاية العام. ومع ذلك، لم يُعطِ باول أي إشارات واضحة حول خطوة الفيدرالي المقبلة، مؤكدًا على ضرورة التحلي بالصبر واتخاذ القرارات بناءً على البيانات. ⁽⁸⁾
موازنة التضخم والنمو في اقتصاد مدفوع بالرسوم الجمركية
أشار باول إلى التحديات التي يواجهها الفيدرالي في موازنة ضغوط التضخم والنمو الناتجة عن الرسوم. فإذا ارتفع التضخم، قد يضطر الفيدرالي للإبقاء على أسعار الفائدة أو رفعها لتقليل الطلب.
وفي المقابل، إذا تباطأ النمو بشكل ملحوظ، فقد يكون من الضروري خفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد. وقال باول: “قد نجد أنفسنا في سيناريو صعب تتعارض فيه أهدافنا المزدوجة”، مؤكدًا أن البنك سيقوم بتقييم مدى بُعد الاقتصاد عن كل هدف، والوقت المطلوب لتحقيقه.
وأكد أنه من الضروري الحفاظ على توقعات التضخم طويلة الأمد عند مستوى 2%. وحذّر من أن تأثيرات الرسوم على الأسعار قد تستمر، حسب كيفية انعكاسها وسرعة تأثيرها على المستهلكين.
ورغم دخول الولايات المتحدة عام 2025 وهي تقترب من تحقيق هدف التضخم الكامل مع مستوى توظيف شبه كامل، فإن فرض الرسوم الجمركية أوقف هذا التقدم وجعل من السياسة النقدية تحديًا أكبر.